سارة الطيب تكتب:من العلمين إلى الخرطوم..
رسائلٌ ولقاء الأشقاء في زمن الجراحفي لحظات المفاصلة بين الخطابات الرسمية والمواقف الإنسانية، تظل الكلمات النابعة من القلب وحدها هي القادرة على لمس الحقيقة، ولعل الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة عبّر بأبسط العبارات عن أعمق المعاني حين قال:“ليس بيننا وبين السودان حدود… بيننا وشائج وأخوة وماء واحد يجري في عروق الأرض”.
لم تكن تلك مجرد كلمات أدبية، بل كانت بياناً صادقاً لعلاقة شعبيْن لا تفصل بينهما خطوط مرسومة على الخرائط، بقدر ما تربط بينهما أنهار الدم والتأريخ والنيل، هذه العلاقة المتينة تجلت في أحلك اللحظات، وتحديداً في زمن الحرب التي مزقت السودان، حين كانت مصر – حكومة وشعباً– أول من فتح الأبواب والقلوب.تجلّت هذه الروح من جديد، في لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الانتقالي، في قصر العلمين، لقاءٌ حمل أكثر من طابع سياسي، لقاءٌ فيه من الموقف الإنساني، بقدر ما فيه من الرسائل الاستراتيجية.لم تتوانَ مصر في استقبال مئات الآلاف من النازحين، ولم تتعامل معهم كلاجئين، بل كأهل دخلوا بيتهم الثاني. فتحت الجامعات والمدارس، وقدّمت العلاج والمأوى، وسهّلت ما استطاعت من سبل الحياة في ظروف استثنائية، تثبت أن الجوار ليس موقعاً جغرافياً بل هو موقفٌ أخلاقي ومكانٌ في القلب.
وحين نقرأ مشهد لقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالفريق أول عبد الفتاح البرهان في قصر العلمين، لا نستطيع عزله عن سياق أكبر من الدبلوماسية الرسمية، لأنه يأتي في وقتٍ تُعيد فيه التحديات الإقليمية – لا سيما في المثلث الحدودي بين السودان ومصر وليبيا – تشكيل الأولويات الأمنية والاستراتيجية للبلدين.
السيطرة المؤقتة لمليشيا الدعم السريع على تلك النقاط الحدودية، ووجود أطراف إقليمية داعمة لها، لا يمكن أن يُقرأ خارج هذا المشهد المعقّد، لكن ما يجب التمسك به دائماً أن مصر والسودان – مهما بلغت التحديات – هما المصد والجدار الأخير لبعضهما البعض، وسقوط أحدهما يعني اهتزاز الآخر.
إن ما يجمع البلدين اليوم أكبر من المصالح الاقتصادية وأعمق من تنسيق سياسي. إنه اختبار جديد للروابط الشعبية، للعهد القديم بين ضفتي النيل، لصدق العبارة التي خطها عكاشة، حين كانت السياسة تتعثر، وكانت الثقافة تتبختر وحدها وتنطق بالصدق.وفي زمن الكرامة، يعلو صوت الأُخوة الحقيقي،وفي زمن الحرب، تُثبت الشعوب أنها أوفى من التحالفات .
إن اللقاء في العلمين يُرسل رسالة واضحة هي: أن السودان ليس وحده في معركته، وأن مصر تقف إلى جانبه في مواجهة التحديات، دفاعاً عن الأمن القومي المشترك، وحفاظاً على الاستقرار في المنطقة.فما يحدث على الحدود الثلاثية بين السودان ومصر وليبيا، خاصة بعد تسلل مليشيا الدعم السريع وسيطرتها المؤقتة بدعم من جماعات تابعة لحفتر، ليس مجرد تفلت أمني، بل تهديد حقيقي لمفهوم الدولة وحدودها، ومحاولة لفرض واقع جديد عبر مليشيات تم إعدادها بعناية، وبتمويل إماراتي مكشوف.وهنا، لن تقف مصر موقف المتفرج، ومخطئ من يظن أن القاهرة ستتعامل بلا مبالاة مع التواجد المصنوع بعناية لمليشيات التمرد في منطقة المثلث الحدودي، فالجيش السوداني يقاتل بشجاعة وهو يدرك أن بلاده على المحك، ومصر الرسمية تدرك أن أمنها يبدأ من العمق السوداني.
والعالم الآن بدأ يستشعر أن النار التي التهبت في السودان، قد تجد طريقها إلى أطراف أخرى، وهذا ما يجعل من قضية السودان قضية إقليمية بامتياز.في النهاية، هذا اللقاء لا يحمل فقط ملامح التضامن، بل هو خطوة جديدة في تثبيت معادلة أمنية عنوانها: لا سلام دون استقرار السودان، ولا استقرار دون تحييد المليشيات، ولا مواجهة حقيقية دون وحدة المصير بين الخرطوم والقاهرة.