*د. طارق محمد عمر*
يجد المراقب للشأن السوداني نفسه أمام مفارقة مؤسفة: ففي الوقت الذي تتعلق فيه آمال الشعب السوداني العريضة بالطبقة السياسية لتحقيق نهضة البلاد، يتصدر المشهد السياسي غياب شبه تام للتخصصية، ما يجعل تلك الآمال معلقة على أداء قد يفتقر إلى الأسس العلمية.
تُظهر التجارب التاريخية أن التنمية الشاملة ليست مجرد قرار سياسي، بل هي عملية منهجية تبدأ بوضع رؤى استراتيجية قائمة على المعرفة المتراكمة والخبرات التخصصية. إن أولى خطوات أي نهضة حقيقية تكمن في إشراك العقول النيرة من العلماء والخبراء في مختلف المجالات، وتكليفهم بوضع الأسس والموجهات العامة لخطط التنمية.
يجب أن تتشكل لجان متخصصة، تضم نخبة من الأكاديميين والمهنيين، لتكثيف جهودها في إعداد دراسات جدوى شاملة لكل مشروع تنموي، وتقديمها إلى الجهات العليا. هنا يأتي دور السياسي الحقيقي، الذي لا يقتصر على صياغة الخطاب، بل يتعداه إلى الاستفادة المثلى من هذه الدراسات العلمية، وتعبئة الأمة لتحويلها إلى واقع ملموس.
إن الخلط بين الأدوار وغياب التكامل بين العقل السياسي والعلمي يؤدي إلى نتائج وخيمة. فالسياسة، على الرغم من أنها قد تتضمن الموهبة والخبرة، إلا أنها تبقى مجالًا علميًا متخصصًا يتطلب دراسة معمقة لا يمكن اختزالها في مجرد الملاحظة أو التجربة العابرة. إن التخصص هو أساس أي عمل ناجح، وكما قيل في التراث: “من كان شيخه كتابه، كان خطؤه أكثر من صوابه.
“لقد أدرك بعض الساسة، وإن كان متأخراً، أهمية هذا المبدأ. فمثال الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل، وزير الخارجية الأسبق، الذي سعى بعد نهاية مسيرته السياسية للحصول على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، يعكس وعياً متزايداً بالحاجة إلى ترسيخ الخبرة السياسية بالدراسة الأكاديمية.
إن نهضة السودان لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال مزاوجة حقيقية بين العلم والسياسة. يجب على النخبة السياسية أن تضع يدها في يد العقول العلمية المتخصصة لتصوغ رؤية مستقبلية مستدامة، مبنية على أساس راسخ من المعرفة والتخطيط الاستراتيجي.